هكذا ودع عبد الاله حبيبي شموخ جبال الاطلس وناسها بعد اداء مهامه النبيلة

محطة24 – أحمد بيضي

 

كلمة من التربوي والروائي والفيلسوف، الصديق عبدالإله حبيبي، بمناسبة انتقاله، كمفتش لمادة الفلسفة، من مديرية خنيفرة إلى مديرية تطوان:

 

“واحد وعشرون سنة مرت، قضيتها في ممارسة مهنة التفتيش بجبال الأطلس الصامتة، كنت خلالها أتحمل مسؤولية تدبير ما يزيد على أربع نيابات وخاصة بعد المغادرة الطوعية، عند بداية كل موسم دراسي أتوصل بتكليف بنيابة إضافية بكل ما يعنيه ذلك من عبء معنوي ومادي مكلف جدا، لا ينتبه أحد لما تعانيه وأنت تقطع المسافات من شمال المغرب حتى تخوم جبال الأطلس الكبير، تفرض عليك ظروف العمل التنقل كلما كانت هناك حاجة لتوقيع أو زيارة أو ترسيم، رغم طول الطرقات ومخاطر السياقة وخاصة خلال فصل الشتاء كان الواجب يحتم علينا المغامرة بكل شيء من اجل النهوض بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا خاصة عندما يتعلق الأمر بامتحانات الكفاءة والترقيات، لا نعير كبير اهتمام لمحنتنا، ولا لظروف عملنا، ولا لقوتنا الذي تقرضه مصاريف الطريق والأكل والمبيت، الحافز الكبير الذي كان مشتعلا في وجداننا هو تسوية وضعية الأستاذ التي هي جزء من الشروط التي حتما ستؤثر عليه كشخص من جهة ، وعلى مردوديته داخل القسم، وفي علاقته بالتلاميذ كمدرس من جهة أخرى، كل هذا الزمان الذي مرَّ كان يشبه التجوال في قارة غير ذات حدود، كل الطرق تؤدي إلى نفس المسارات، وبالعبور من فوق نفس الجسور، رحلة استكشاف لوعورة العزلة في قارورة مغلقة تعبث بها الأمواج وهي مستسلمة لأهواء الرياح، لكن الجميل في هذا السفر المسترسل دون انقطاع هو اللقاء، أو حدث اللقاء بالناس، بالطبيعة، بالجغرافية، بالتاريخ الموشوم على أديم الأحجار التي ترافق هدير المحركات، وصوت العجلات، بالصمت المطلق أحيانا الذي تعزف له كل هذه الأشياء لغة خاصة تشبه قطعة موسيقية لم يسبق لك أن سمعتها، كلحن آت من وراء التعب والحلم والتجوال…

 

أنا سعيد بكل هذا الزمن الذي قضيته وأنا أطارد شبح أفلاطون بين التلال وفوق الربوات وعلى قمم الجبال وأحيانا بين كتبان السراب، تارة أجده مبتسما يعلم الصغار كيف يصنعون أجنحة من عجزهم للحاق بفكرة الحقيقة الهاربة من كل تحديد، وتارة أسلم عليه وهو منكسر الهامة، فاقدا القوة على الكلام من كثرة العيش في الوديان والفيافي الهجران، يقول لي فيما يشبه همس الليل أن الفلسفة بنت المدينة يا رجل، عُد ابحثْ عنها هناك، كنت أواسيه، أدعوه أن يعيد النظر في فكرته هاته، حيث كنت أحاججه بالحكماء الذين خرجوا يعلمون الناس الحكمة من عمق الفيافي و القفار ولا زالوا إلى اليوم أثرا يرفض الموت أو الاضمحلال ، يلتفت نحو النافذة، يطيل النظر في الفراغ المقيم في الخارج، ثم يستأنف درسه وكأن شيئا من هذا الحوار لم يقع… يكتفي بالقول لقد علمك السفر الشعر و أنساك الفلسفة يا صديقي…

 

بمناسبة انتقالي إلى مديرية تطوان، يشرفني أن أشكر كل الأساتذة الذين اتصلوا بي عبر الهاتف أو بعثوا بمشاعرهم عبر الفايس من أجل تهنئتي ، أقول لهم كم أنا سعيد بقراءة شهاداتكم في حقي التي أعتبرها أجمل شيء تسلمته من بعد كل هذا الوقت الذي قضيته وأنا أرتب دوما حقائبي لأطير بمحفظة وخاتم توقيع وكراسة، بحثا عن عصافير الفلسفة في تخوم الأطلس وفجاجه، أنا مدين لكل الإخوة الأساتذة الذين كنت دوما أتعلم منهم بعض الأسرار البيداغوجية، وبعض الاشراقات الفلسفية التي لا يتقنها إلا الممارس اليومي لمهنة التدريس، وأعدهم أنهم سيظلون حاضرين في مخيلتي الفكرية علامات مضيئة تمنحني إرادة الاستمرار في البحث عن أفلاطون في منعرجات أخرى..

 

تحية خاصة لصديقي ورفيق رحلاتي حوسى أزارو الذي لن أنسى له جميلا وهو الذي حمل معي هذا العبء، وآزرني طوال هذه المدة، رفقة صديقي وأخي مصطفى تودي ، حيث كنا معا فريقا متماسكا لمواجهة كل الطوارئ، والتصدي لكل العوائق، فضلكم علي لن أنساه يا صنف الرجال النادر في هذا الزمن المتدحرج رداءة وتشوها… ومتمنياتي لكما بالتوفيق في مساركما الحياتي والمهني والعلمي حتى تكونا دوما نبراسا يهتدي به كل الأساتذة الجدد الذين هم في حاجة اليوم لأمثالكما من أجل تمرينهم على سبر غور متاهات الدرس الفلسفي… كما لا يفوتني أن أعبر لكل من الأساتذة كمال والفنون وحميد وأوعبيشة وعشاوي وحلال وآخرون عن سعادتي الكبرى عند قراءة نصوصهم الجميلة التي فيها يتحسرون على نهاية هذا المسار الطويل من الرفقة والأنس والمسؤولية الأنيقة التي كان فيها كانط هو المعلم الكبير لنا جميعا….مودتي أيها السادة ومحبتي الدائمة….”

Comments (0)
Add Comment